فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج، هو أن يوجد مرتان، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح والإنفاع، وفي معنى الآية وجهان أحدهما: أن توقع عليها الطلقة الثالثة، «روي أنه لما نزل قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} قيل له صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}» والثاني: أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو مروي عن الضحاك والسدي.
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها: أن الفاء في قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله: فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها: أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال، لأنه بعد الطلقة الثانية، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} أو يطلقها وهو المراد بقوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقًا آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها: أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها: أنه قال بعد ذكر التسريح {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} والمراد به الخلع، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.
واعلم أن المراد من الإحسان، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان مقصود النكاح حسن الصحبة وكانت من الرجل الإمتاع بالنفس والمال وكان الطلاق منعًا للإمتاع بالنفس قال: {بإحسان} تعريضًا بالجبر بالملل لئلا يجتمع منعان: منع النفس وذات اليد- أفاده الحرالي وقال: ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية- انتهى. ومن ذلك بذل الصداق كاملًا وأن لا يشاححها في شيء لها فيه حق مع طيب المقال وكرم الفعال.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خيره بين شيئين: الرجعة والتسريح الموصوفين وكانت الرجعة أقرب إلى الخير بدأ بها ولكنها لما كانت قد تكون لأجل الافتداء بما أعطيته المرأة وكان أخذه أو شيئًا منه مشاركًا للسراح في أنه يقطع عليه ما كان له من ملك الرجعة ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة كما كان عليه حال أهل الجاهلية وكان الافتداء قد يكون في الأولى لم يفرعها بالقابل قال مشيرًا إلى أن من إحسان التسريح سماح الزوج بما أعطاها عاطفًا على ما تقديره: فلا يحل لكم مضارتهن: {ولا يحل لكم} أي أيها المطلقون أو المتوسطون من الحكام وغيرهم لأنهم لما كانوا آمرين عدوا آخذين {أن تأخذوا} إحسانًا في السراح {مما آتيتموهن} من صداق وغيره {شيئًا} أي بدون مخالفة. قال الحرالي: لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية الدرجة لا في مقابلة الانتفاع فلذلك أمضاه ولم يرجع منه شيئًا ولذلك لزم في النكاح الصداق لتظهر مزية الرجل بذات اليد كما ظهرت في ذات النفس- انتهى.
ولما كان إسناد الخوف إلى ضمير الجمع ربما ألبس قال: {إلا أن يخافا} نصًا على المراد بالإسناد إلى الزوجين، وعبر عن الظن بالخوف تحذيرًا من عذاب الله، وعبر في هذا الاستثناء إن قلنا إنه منقطع بأداة المتصل تنفيرًا من الأخذ ومعنى البناء للمفعول في قراءة حمزة وأبي جعفر ويعقوب إلا أن يحصل لهما أمر من حظ أو شهوة يضطرهما إلى الخوف من التقصير في الحدود، ولا مفهوم للتقييد بالخوف لأنه لا يتصور من عاقل أن يفتدي بمال من غير أمر محوج ومتى حصل المحوج كان الخوف ومتى خاف أحدهما خافا لأنه متى خالفه الآخر حصل التشاجر المثير للحظوظ المقتضية للإقدام على ما لا يسوغ والله سبحانه وتعالى أعلم {ألا يقيما} أي في الاجتماع {حدود الله} العظيم فيفعل كل منهما ما وجب عليه من الحق.
قال الحرالي: وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها لا من غير ذلك من مالها، والحدود جمع حد وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه- انتهى. ثم زاد الأمر بيانًا لأنه في مقام التحديد فقال مسندًا إلى ضمير الجمع حثًا على التحقق ليحل الفداء حلًا نافيًا لجميع الحرج: {فإن خفتم} أي أيها المتوسطون بينهما من الحكام وغيرهم من الأئمة بما ترون منهما وما يخبرانكم به عن أنفسهما {ألا يقيما حدود الله} وتكرير الاسم الأعظم يدل على رفعة زائدة لهذا المقام، وتعظيم كبير لهذه لأحكام، وحث عظيم على التقيد في هذه الرسوم بالمراعاة والالتزام، وذلك لأن كل إنسان مجبول على تقديم نفسه على غيره، والشرع كله مبني على العدل الذي هو الإنصاف ومحبة المرء لغيره ما يحب لنفسه {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليهما} وسوغ ذلك أن الظن شبهة فإنك لا تخاف ما لا تظنه {فيما افتدت به} أي لا على الزوج بالأخذ ولا عليها بالإعطاء سواء كان ذلك مما آتاها أو من غيره أكثر منه أو لا لأن الخلع عقد معاوضة فكما جاز لها أن تمتنع من أول العقد حتى ترضى ولو بأكثر من مهر المثل فكذا في الخلع يجوز له أن لا يرضى إلا بما في نفسه كائنًا ما كان ويكون ذلك عما كان يملكه عليها من الرجعة، فإذا أخذه بانت المرأة فصارت أحق بنفسها فلا سبيل عليها إلا بإذنها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع، واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقرونًا بالإحسان، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئًا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، وذلك لأنه ملك بضعها، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئًا، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء، كما قال في سورة النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وقوله ههنا: {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله هناك: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق، ونظيره قوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} [الطلاق: 1] فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضًا: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 20] فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئًا.
قلنا: الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطابًا للأزواج وآخرها خطابًا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}.
يجوز أن تكون الواو اعتراضية، فهو اعتراض بين المتعاطفين، وهما قوله: {فإمساك} وقوله: {فإن طلقها} ويجوز أن تكون معطوفة على {أو تسريح بإحسان} لأن من إحسان التسريح ألا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضًا عن الطلاق، وهذه مناسبة مجئ هذا الاعتراض، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به، فالزوج يقف عن أخذ المال، وولي الأمر يحكم بعدم لزومه، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهى وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} إلى قوله: {وارزقوهم فيها} [النساء: 5] وإليه أشار صاحب الكشاف.
وقال ابن عطية والقرطبي وصاحب الكشاف: الخطاب في قوله: {ولا يحل لكم} للأزواج بقرينة قوله: {أن تأخذوا} وقوله: {أتيتموهن} والخطاب في قوله: {فإن خفتم ألا تقيما حدود الله} للحكام، لأنه لو كان للأزواج لقيل: فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما، قال في الكشاف: ونحو ذلك غير عزيز في القرآن اه- يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في الكشاف بقوله تعالى في سورة الصف (13) {وبشر المؤمنين} على رأي صاحب الكشاف، إذ جعله معطوفًا على {تؤمنون بالله ورسوله} إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفًا على الخطابات العامة للأمة، وإن كان التبشير خاصًا به الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتأتى إلا منه.
وأظهر من تنظير صاحب الكشاف أن تنظره بقوله تعالى فيما يأتي: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [البقرة: 232] إذ خوطب فيه المطلّق والعاضل، وهما متغايران.
والضمير المؤنث في {أتيتموهن} راجع إلى {المطلقات}، المفهوم من قوله: {الطلاق مرتان} لأن الجنس يقتضي عددًا من المطلقين والمطلقات، وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب كله للحكام وتأول قوله: {أن تأخذوا}.
وقوله: {مما أتيتموهن} بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنه صاحب الكشاف وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحكام فبطل هذا الوجه، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به، واستعمال الحل والحرمة في هذا المعنى وضده قديم في العربية، قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ** حرمت على وليتها لم تحرم

وقال كعب:
إذا يساور قرنًا لا يحل له ** أن يترك القرن إلا وهو مجدول

وجيء بقوله: {شيئًا} لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام، تحذيرًا من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالًا أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في دلائل الإعجاز.
وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة: 155].
وقوله: {إلا أن يخافا} قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة، فالفعل مسند للفاعل، والضمير عائد إلى المتخالعين المفهومين من قوله: {أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئًا} وكذلك ضمير {يخافا ألا يقيما} وضمير {فلا جناح عليهما}، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما.
وقرأ حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين؛ والتقدير: إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله. والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن.
ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره كقوله: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175] وترادفه الخشية، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى: {فلا تخافوهم}.
وقال الشاعر يهجو رجلًا من فَقْعَسَ أكَلَ كلبَه واسمه حبتر:
يا حبتر لم أكلته لمه ** لو خافك اللَّه عليه حرمه

وخرج ابن جني في شرح الحماسة، عليه قول الأحوص فيها على أحد تأويلين:
فإذا تزول تزول على متخمط ** تُخْشَى بوادره على الأقران

وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية.
وقد قال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.
وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه الله بأنها حقوق الزوج وطاعته والبرِّ به، فإذا أضاعت المرأة تلك فقد خالفت حدود الله. اهـ.